شركاء في صناعة المستقبل
مقتطفات من يوميات كورونا
مقتطفات من يوميات كورونا
الاثنين, 12 تشرين الأول 2020

 

مقتطفات من يوميات كورونا

 

تقفز الأسئلة المكررة إلى رأسي كل مساء في هذه الأيّام بينما أحدق بالسقف، هل أحدث صديقتي على الهاتف؟ هل أشرب القهوة أم الشاي؟ هل أشاهد فلمًا كوميديًا أم أقرأ كتابًا؟ هل أحرق نفسي لأجل أن أكتب؟ لا أحد سيقرأ على أيّ حال.

أرفعُ صوت الموسيقى أكثر فأكثر، أصافح الأسئلة مودعًا، وأستسلم للنوم.

 

أستيقظ على صوت أسطوانة على الجرامافون، مقطوعة موسيقية من مقطوعات بارتوك، لقد رأيته، كان جالسّا قبالة آلتهِ الكاتبة، رائحة السجائر تفوح من كل مكان، ما تقارب ستون سيجارة، كلها على الطاولة.

فركت عيناي جيدًا، صرخت وأنا أقفز على السرير: إنه أنت، هل أنت حقًا ماركيز؟ لا أصدق، هل أنت غابرييل غارسيا ماركيز؟

_ هش، لا تزعجيني أيتها الفتاة، هدوء.

_ أنت هو؟ أجل، هل تكتب الآن رواية مئة عام من العزلة؟

_قلت لكِ: لا أريد أي صوت.

_ حسنًا حسنًا، أريد نسخة موقعة من روايتك، أرجوك فأنا متشوقة للحصول على نسخة من روايتك، سأخبر الجميع أنك صديقي، لن يفهمني غيرك؟ أقسم.

أصابتني الدهشة حينما نظرتُ إلى المنضدة ولم أجد نسخة الرواية التي كنت أقراها ليلة البارحة، ليست موجودة، لقد تمنيت أن أراه، يا إلهي! لقد تحققت أمنيتي.

ذهبت إلى المطبخ، لأصنع كوبين من القهوة،  بينما كنت أتناول علبة عصير قهوة مثلجة سألت تفسي: ماذا يحبّ ماركيز؟ كان عليّ أن اسأله؟ عصير جوافة أم سيحب القهوة المثلجة؟ ربما يفضل نسكافيه بلاك أو قهوة عميد.

كان صوت الأسطوانة ما زال عاليًا، شعرت بالارتياح بأنني سأرى ماركيز مرة أخرى.

عدت وأنا أحمل كوبين من القهوة السادة.

قلت: أريد أن أكتب، علمني أرجوك، لقد رفضت دور النشر مجموعتي القصصية، قال أحدهم: يجب أن أغير العنوان والمواضيع، قال آخر: ليستْ بذلك المستوى، ومنهم من قال ساخرًا: من تظن نفسك يا رجل؟، هل أنت ماركيز لأنشر لك؟

_أيتها الفتاة، عليكِ أن تكوني مفعمة بالقوة حين تكتبين.

_لقد سخر مني الجميع يا ماركيز، لا أحد يحب ما أكتب.

_ لا تستسلمي.

_نعم نعم، لن أستسلم.

 

يقطع رنين الهاتف نومي وأستيقظ، اسم صديقتي يضيء على الشاشة.

_ألو، مرحبا.

_أهلا، كيف حالك؟.

_بخير، لكنني لن أستطيع أن أحتمل أكثر من أسبوع آخر، لقد ضجرت من البقاء في البيت، لكنكِ معتادة على العزلة، معتادة على البيت، ضحكت بسخرية وقالت: الكتاب يحبون العزلة.

_ ماذا سنفعل في حبسة البيت؟ وماذا سيفعل بنا الوقت؟ هل ستتطول أكثر؟ وماذا يجب أن نفعل؟.

_يمكنكِ أن تقرأي، فمكتبة الإسكندرية أتاحت الكتب للقراءة مجانُا وللجميع، ويمكنك متابعة فعاليات مؤسسة عبد الحميد شومان وندواتها الشعرية.

 أنهينا المكالمة بعد أن تشاركنا بعض الوصفات للحلويات وبعض من وصفات العناية بالبشرة.

لقد اشتقت لهم، رغم بلادتهم التي أكرهها أحيانًا، ورغم اختلافنا بالذوق الموسيقي والأحاديث، ورغم ضجري من نكاتهم وسخريتهم.

 

سألتُ نفسي: هل ستعود الحياة إلى سابق عهدها؟ وكيف ستتغير حياتنا وأولوياتنا؟ هل سنعيش لما هو أهم؟ هل سنعمل أكثر أم سنعيش لأجل الحياة الراهنة فقط؟ الأمل الذي يرافقنا دومًا في أبسط تفاصيل أيّامنا هل سنتركه الآن؟ هل سنقف مكتوفي الأيديّ أمام الوباء؟ هل سنسّلم أنفسنا للحزن واليأس؟

أدير المسجل على صوت فيروز ليصدح في هدوء المكان، يعلو ويعلو، أصنع كوب قهوة فألمح كتاب مئة عام من العزلة على المنضدة فأتذكر الحلم مع ماركيز، فأغني مع فيروز"  لا تهملني لا تنساني.. يا شمس المساكين"، وأسمع صوتي أكثر وأكثر حتى تتلاشى كل الأشياء في داخلي.

 

الستائر البنية المدلاة، ملابسي مترامية الأطراف، فناجين القهوة في كل مكان، دخلت أمي إلى غرفتي بالخبز الساخن، كان أكثر ما يُطمئن قلبي في هذه الأيام هو الرائحة الزّكية التي تفوح في أرجاء البيت لخبز أمي الطازج فيختلط برائحة الزيت والزعتر البلدي وهذا شيء لم أعهده إلا في هذه الأيام، فأعادت فينا شوقنا لحكايات الجدّات وجمال صباحهم المليء بالحبّ في أرغفة الخبز، تذمرت أمي من كل هذه الفوضى، طالما كنت أتحدث مع أمي وأتبادل معها أطراف الحديث لأني أحبها، وأستمع منها لأحاديث العائلة محاولًا في كل مرة أن أتحمل أكثر، ثم أعود بعدها إلى عزلتي، فأكتب...

أسمع صوت أبي وهو يقول: سأذهب لشراء بعض الطعام، ارتدي معطفي على عجل وألحق به.

 

وصلنا إلى السوبرماركت  بعد أن مررنا على ثلاث صيدليات؛ علنا أعثر على كمامة واحدة، فقد نفذت الكمامات، اشتريت معقم جيد للأيدي لم أقتنيه من قبل، وقفنا في طابور طويل كل منا يبتعد فيه عن الشخص الذي قبله قرابة المتر والنصف، الجميع هنا يرتدي الكمامة، مصابون بالخوف، تعرف هذا من نظرة عيونهم الفزعة، خائفون من الاقتراب من بعضهم البعض.

 

كنت أتأمل الشوارع الفارغة بينما نمشي في الطرقات، هدوء يعم المكان، لا وجود لعربات الطعام، المطاعم مغلقة، لا وجود لأي أثر للتواصل إنساني هنا، عدنا للمنزل وبأيدينا أكياس الرّز والمعكرونة وبعض الخضار، بدأنا بتعقيم الأكياس وعلب الطعام، غسلت الفواكه والخضروات أكثر من مرة بالملح والخل بعد أن كنتُ آكلها في الأيام العادية بغسلها بالماء فقط أو بمسحها وحسب، أغسلُ يداي جيدًا وأفكر لو أننا نعيد النظر في حقيقة الأشياء التي يجب أن نُمسكها أكثر؟ لو نبحث عن الجوهر دون أن تخدعنا المادّة، كنت أغسلُ ملابسي كل يوم وأمسح أيّ سطح أجده أمامي بمادة الكلور المخففة بالماء، استنشقُ رائحة الكلور التي لا أحبها كلّما رششت منها في الجو، وأُذّكرُ نفسي بأنّي ما زلتُ أتنفس بلا جهاز، وأنّ هذا أرحم بكثير مما قد يُخلّفه هذا الوباء في الجسد البشري أو أن يموت الإنسان تدريجيًا بصعوبة في التنفس.

 

في كل صباح، كنتُ أعدّ القهوة وأرشفها على سريري وأنا أراقب العصافير والقطط من نافذة غرفتي، وأحسدها على حريتها، لا أحد في الطرقات، السيارات مركونة ولا صوت ضجيج، لم أعد بحاجة لتذكر أسماء أيّام الأسبوع، كانت أيامي مكررة كأنها يوم واحد، بلا خطط ومواعيد، الصباح نفسه بلا منبّه، والنهار مثل نهار البارحة والذي قبله، منذ فترة لم أفكر بكميّة الأعباء والأعمال التي كان عليّ إنجازها قبل نهاية الاسبوع لأرتاح في يوم العطلة.

 

ها أنا في البيت اسألُ نفسي: كيف أرى البيت الآن؟ هل هو البيت الذي يتكون من أربع حجرات متوسطتا الحجم ومطبخ وحمّام؟ هل هو نفس البيت الذي نعود إليه في المساء ونرمي عليه ثِقلنا في نهاية يوم شاقّ من حياتنا اليومية المكتظة؟ لقد تعرفت عليه أكثر، مثلاً استطعت تقدير مساحته بدقة أكثر فقد ظننت أنه أكبر مما هو عليه الآن، كما أنني لاحظت بأن جدران البيت تحتاج إلى طلاءٍ جديد وديكور يضيف لمسة جمال رقيقة، لقد أعادتنا الحياة إلى بيوتنا رغما عنّا، البيت الذي ربما ما شعرنا بأمانه إلا في هذه اللحظات الصعبة عندما داهمنا هذا الوباء، أريد أن نتجمع حول مائدة واحدة بلا نظرة خوف واحدة، أريد أن أغادر منزلي دون أن أهمله، أريد أن أعود له وأنا ممتنة للأمان فيه مع عائلتي، كان وجودنا في الوطن الصغير لحماية وطننا الأكبر، لا أن نضيق به فتضيق علينا الحياة.

 

في البداية حاولتُ أن أستمتع بهذه العطلة ثم بدأ الروتين يسحبني نحو الشعور بالملل والضجر، بدأت بممارسة الرياضة من ساعة إلى ساعتين في اليوم، وقمتُ بترتيب غرفتي وملابسي وتخلصتُ من الأشياء البالية، عثرت على أشياء ما زالت موجودة منذ طفولتي إلى الآن، سجلت في أكثر من مساق من منصة إدراك التعليمية، كتبت بعض الخواطر وتمكنت من نشر أكثر من مقال في مواقع أردنية، قرأت الكثير من الكتب التي لم أستطع قراءتها من قبل لضيق الوقت، كانت فرصتي لأفعل كلّ ما لم أستطع أن أفعله في غِمار حياتي اليومية، كما يصنع الشعراء إبداعهم من العزلة سنحاول أن نفكر بأكبر قدر من المنفعة ونعيد النظر في مشاريعنا المؤجلة ونبحث عن لمسات الإبداع والخروج عن المألوف، كنت أُفضّل أن أفعل أي شيء كلعبة على أن أترك نفسي للانهيار العصبي بالرغم من أن الأسئلة راودتني كثيرًا، أرقتني فكرة أن مصيرنا مجهول وضبابيّ حتى الآن، بعد شهرين من الحظر العام لم أخرج من منزلي إلا يوم واحد، لا أحد يعلم عن الحياة شيئًا بينما الأرض تستمر في الدوران، الحياة ما زالت غامضة حتى وإن أصبح الأمر اعتياديًا بطريقة ما.

 

مساءك عادي ككل مساء، مليء بالانتظار رغم أنك لا تنتظر أحدًا ولا ينتظرك أحد، تستقبل نفسك كل يوم، تقدم لنفسك طبقَا من الحلوى مع كوب قهوة على شرف عزلتك.

 

في الفجر سمعت صوت المؤذن يبكي بينما يردد: ألا صلّوا في رحالكم، إننا بحاجة للعبادة والصلاة أكثر أيضًا، أستشعر بنور الفجر ونسماته العليلة فجر الحرّية وأتخيل انتصارنا على هذه الوباء، أتخيل فرحنا الغامر ونحن نرفع الكمامات ونلقيها بعيدّا، أقول: صباح الخير يا وطني، دمت لنا سالمًا معافى.

 

 

 

براء الفار