غزوٌ مختلف
ما زالت تلك اللحظات قائمة في مخيلتي ما زلتُ أراها كلَ يومٍ أمامَ أعيُني أُقلبها في ذاكرتي كدفترِ مذكراتي الذي كتبته في صغري لأُدونَ ما كانَ يحدثُ في أيامي ، لكن ذاكرتي قد خانت ما رجاهُ قلبي من أحلام بحيثُ أصبح كلُ ما جرى مجردُ أوهامٍ قد عشتُها ، هيَ لم تكن إلا لحظاتٍ معدودةٍ وأيامٍ قليلة او رُبما كانت طويلة لا أعلم ! لكن ألمُها كان ثقيلاً ثقيلاً للغاية ، أصبحت تمرُ الأيام وكأنها في الثانية عشرَ صباحاً كلَ يوم وكأن أحداً قد أوقفَ الوقتَ أو أحدث خللاً في الساعة أو رُبما كانَ الوقتُ يَمضي ونورُ الشمسِ يُضيء ومضاجِعُنا هيَ من كانت مظلمة طِيلة الوقت ربما لعطلٍ في عداد الكهرباء ! وبريقِ أعيُننا لقد أفسد ذاك السوادُ جماله الذي يحيطُ بهما من الأرق كقطرةٍ نقية قد غُمست في بحرٍ أسودٍ عتيق وغرقت في أعماقه.
لكن لا لم يكن ذاك البحرُ إلا موجةٌ جاءت على هذا العالم يعتليها جنديٌ محملٌ برماحٍ ودروع ليجرفَ جثامين الأطفالِ والنساءِ والشبابِ والشيوخ ويسلبَ ضوضاءَ وأنوارَ شوارعنا ليملؤها بالهدوءِ طِيلة النهار وليعُّم السلام لكن دون سلام وبالرعبِ في الليلِ وكأنها حربٌ قد شُنت علينا حين سماع ما يسمى (صافرات الإنذار) .
وبدون سابق إنذار يجتاحُ العالمَ فيروساً خطيراً لم تشهدهُ الإنسانية من قبل فيروساً يغير مجرى حياة العديد من الدول في هذه الأيام يُهدد الصحة العالمية والإقتصاد ، هذا الفيروس الذي انتشرَ من بؤرة تفشي الوباء (ووهان) الذي توعّدَ بأن يملأ أسرّة مستشفياتنا والإنغلاق عن حياتنا. كان هذا صوتُ المذيع الذي استيقظتُ عليه ذاتَ صباح بعد أن مرت عدةُ أيامٍ لخضوعي لعملية في الرباط الصليبي بحيثُ أصبحَ يتداول أيضاً خبر إعلان حالة الطوارئ في بلادي وإقرار أمر الدفاع في تلك الآونة عجرتُ عن تصديقِ ما وصل إليه حالُنا ، أصبح عقلي مشوشٌ تماماً لم أكن أنطقُ سوى ماذا؟ كيف؟ متى؟ دون أن أسمع أيُ إجابة كانت هذه الأسئلة شبيهةٍ بصوت تائهٍ في الصحراء يطلبُ النجاة ولا يسمع سِوى صدى صوته وكأنها نهايةُ العالم.
أغلقتُ التلفازَ من جهاز التحكّم الذي وَضعته أمي إلى جانب رأسي بقولي : لا أريد أن أسمعَ المزيدَ من الأخبار . يا هل تَرى ما زالت أمي نائمة ! يجب أن أتناول وجبة الإفطار لكي أشربَ الدواء في موعده ، لكن عجزي عن السيرِ وحدي كان عائقاً أمامي للممارسة أيُّ أمرٍ من أمور الحياة وبعدَ عدة ثوانٍ قليلة فُتحَ بابُ غرفتي بابتسامة وقول: صباحُ الخيرِ حبيبتي جَهزتُ الفطور. كان دخولُ أمي كنسمةِ هواءٍ عليلٍ أُنشرٍحَ له صدري بعد تلك الأخبار التي سمعتها ، لكن أيُعقل أمي لم تستمع للأخبار؟! فهذا خبرٌ مؤلم جداً هذا ما دارَ في ذهني حين رأيتُها سعيدة بوقتِ دخولها إلى غرفتي في تلك الأوضاع ، ليقاطع صوتُها حبلُ أفكاري بقولها : أتعلمينَ يا ابنتي قد اجتاحَ الوباء بلادَنا أيضاً وستُعلن حالة الطوارئ ، قد يكونُ هذا أكثرُ خبرٍ آلمني وغيّرَ نظرتي للحياة الله رحمتُك ولطفِك بنا . سأتصلُ بوالِدَكِ ليجلبَ لنا مستلزماتٍ كثيرةٍ من الممكن أن تنقصنا في حظر التجوال الذي سيطبق هذا المساء .
_ حسناً أمي
قد أجابت على ما دارَ في ذهني وكأنها كانت تتخاطرُ مع أفكاري لكن لم أستطع تقبُلَ هذا الواقع لا سيّما أن أعداد المصابين ستتزايد أحسستُ بأنني أيقنتُ الواقعَ قبل تزايد الأحداث بوقتٍ كثير لكن في حياتِنا هناك احتمالاتٌ ضئيلةٌ وأنا أؤمن بالاحتمالات دائماً ، لا سيّما بعد أن عاد أبي قبل إطلاق صافرات الإنذار وإغلاق المحال لليوم الأول حين أخبرني أنه من المهم أن أخضع لعلاجٍ فيزيائي ليساعدَني على التعافي سريعاً ، لكن بقولهِ متأسفاً أن يحملَ مساوئَ عدمَ خضوعي للعلاج بأنهُ لن يستطيعَ أخذي إلى أيّ طبيب ؛ لأنَ المراكزَ العلاجيةَ قد أُغلقت أيضاً.
لكنني في هذه اللحظة أدركتُ مبالغتي قليلاً في الأمر لماذا قد أُحمَّل عائلتي عبئً يفوقُ طاقتِهم ؟ فكرتُ سريعاً بحلٍ يخفف ذاك العبئ عليهم.
_أبي لا بأس هناك العديد من القنوات العلاجية على يوتيوب سأتعلم كيفية العلاج فهوَ لا يحتاج سِوى مبذولٍ جسدي فهوَ مجردُ علاجٍ طبيعي لا تقلق.
أبي: هل أنتِ متأكدة بأنه سيُبدي نفعاً كما هوَ على الواقع من طبيبٍ متخصص؟
_ بالتأكيد ، فهيَ قنوات يترأسُها علاجيون متخصصون بهذهِ الأمور سيُبدي نفعاً إن شاء الله بمساعدتكم لي أيضاً .
أبي: سنبذُل كُلَ ما بوسعِنا لتعودي كما كنتي وأفضل .
_بإذن الله .
جلسنا أنا وأبي في الصالة ليلاً نتسامرُ الحديثَ سوياً في حينِ إنتهت أُمي من إعداد الطعامِ لنا كانت هذهِ المرةَ الأولى التي تطولُ جلستُنا وتعلو ضحكاتُنا ، كانت ضَحِكاتُ أبي وأُمي أشبهُ بترانيمٍ قُدسيّة لم أكن معتادةً من قبل على هذا الأمر كنتُ أمضي أغلبَ أيامي قبل إعلان حالة الطوارئ أو خضوعي للجراحة في السكن الجامعي، لم يَكُن حضوري إلى المنزل سِوى يومين كنتُ بمثابةِ ضيفٍ هُنا أشبهُ بغريبِ الدار .
شعرتُ وكأنني لم أعش هذهِ اللحظات العائلية من قبل ولم أتعمق في عالم أسرتي الصغيرة ، كان من هُنا يجبُ عليّ التفكير بشكلٍ إيجابيٍ أكثر فقد أصبحَ لديّ متسعٌ من الوقت لأقضيهِ مع عائلتي وابتكارِ وتنفيذ العديد من الأمور ، فأنا بطبعي شخصٌ طموح أُحبُ التميُّز والتجديدَ في حياتي كما وكانَ على عاتقي تحمل مسؤولية علاجي بنفسي وكان هذا دافعٌ كافي لاعتمادي على ذاتي.
_أُمي وأبي أريدُ الخلودَ إلى النومِ .
أبي: حسناً سأحملك إلى غرفتك .
_لا ليس هناك داعي لذلك أحضر لي جهاز (الووكر) وسأذهب بنفسي .
أمي: أجل من الأفضل أن تذهب بنفسها لتعتادَ عضلاتها على الحركة لكي لا يغلبها الخمول .
وبعد أن جلبَ أبي لي الجهاز ودخلتُ إلى غرفتي في الحقيقة لم أكُنْ أريدُ النوم ، كنتُ بحاجةٍ إلى أن أفكرَ بشكلٍ عقلانيٍ أكثر في بعض الأمور التي يجب تحقيقها باعتبار غرفتي عالمٌ تتطاير به الأفكار والصور الجميلة ولا أحد يراها سواي .
أولُ ما تبادرَ الى ذهني أنهُ يجب عليّ زيادة مهارتي في اللغة التركية ولا يجب إهمالُها فهوَ تخصُصي الجامعي ولطالما كان حُلمي ، بدأتُ الكتابة عن شخصيات تركية قديمة والتعرف على جماليات اللغة بشكلٍ أفضلٍ وأوسع في حين أصبحت أيامي تمضي على هذا النحو: بالتدريب والمثابرة للعلاج والتعلّم والتطوير للإبداع . إستطعتُ تفادي شُعور العجزِ والوَهَن هدمتُ حاجزاً متيناً مع نفسي قمتُ على تغييرِ واقعٍ لم تَكُن نهايتهُ إلا الفشل إن سادهُ الإستسلام ، لكنني لم أستطع تفادي شعور الحزنِ والألم في ليلةٍ كانَ الهدوء يعمُّ أرجاءَ الحي بسماعِ خبرِ تزايُد حالات الوفاة من أمي ؛ بسبب ذلك الغزو الذي اجتاحنا من جُنديّ يحتوي بين ذراعيه قوة جبارة ، كانت قادرة على هدمِ إقتصادِ دولٍ وإحداثِ أضرارٍ هائلة بالصحة العالمية وإضعافِ قلوبٍ ارتجفت ألماً على ما كان يحدث .
ولم أشعُر بتزايُد آثار هذهِ الجائحة على محيط مجتمعي إلا بعدَ عدةِ أسابيعٍ على حظر التجوال ، بمعرفتي بتأثُرِ جيرانٍ يقنطون بحيٍ يُجاورُنا لافتقارهم لحوائجَ كثيرة لم يكن بمقدورهم أنْ يجلبوها لسوءٍ في الأوضاع .
هذا ما سمعتُ عائلتي تتداولهُ مع أصحابِ الخيرِ لمساعدتهم في وقتٍ أُغلقَ فيهِ المَحال وتوقفَ العمالُ عن أعمالهم ، لكن تكاتفُ أيدينا سوياً لتلبيةِ حاجاتِ المحتاجين كانت كافية لذلك رُغمَ بُعد التواصلِ بيننا إلا أن قلوبَنا كانت متقاربة ، شعرتُ بنوعٍ من الطمأنينة بأنه ما زَالَ بداخلنا إنسانٌ حيّ يشعرُ بنقصِ الآخرين ، لم يكن بمقدورِنا سِوى هذا ومناجاةِ الله بالدعاء الذي لم يكن يتلازم في قلوبِنا فقط بل كانَ بالمساجدِ والكنائسِ والمعابد رغم إغلاقها ، كان الدعاءَ يتلازم مع كلِ ثغرٍ وحجرٍ موجود على أرض هذا الوطن وبعينِ كُلِ طبيبٍ نسيت معنى الراحةِ والهناء وبسلاحِ كُلِ جندي حمى الإنسانيةَ جمعاء ، كانَ الدعاءَ قد تكدسَ في روحِ كُلِ فقيرٍ نسيَ ألمَ فقدانهِ لمتطلبات الحياة واكتفينا جميعاً شعباً وجيشاً وكوادراً بتعافي وطنٍ هو لنا الحياة .
ساره الحميمات