"عطاء بعد الشّتاء "
أتذكر جيدا بداية هذا العام ، كانتْ الأجواء باردةْ وأشجار اللوز تستعد للإزهار والسماء تحتضن الغيوم المتقاطعة في وسط زرقة فاقعة كأنها لوحةٌ فنية ليس كمثلها شيء؛ جمالٌ شتويٌ يبعث في نفس الانسان الراحةْ والامطار الليلية ورائحة التراب الزكية وأحلامٌ تملؤها الطاقاتْ الشبابية تمتزج معا باعثة لأمل جديد وعام مليء بالمفاجئات، وكان العالم أجمعْ متخوفا من وباء بدأ بالتفشي والتمدد وبدأت جميع الدول في العالم أجمع بالحديث عن مرض جديد يدعى "فيروس كورونا" ، في مساء الثاني من مارس طرقت أمي باب غرفتي ثم قالت :
الأم: عزيزي طارق هلا تساعدني بتحضير طعام العشاءْ ؟
طارق: حالا يا أمي ، ها أنا قادم .
توجهت الى مساعدة أمي على الفور ، واذا استوقفني الشريط الاخباري لموجز الساعة السابعة ؛ بالخط العريض ( عاجل : تسجيل اول حالة لمصاب بفيروس كورونا في الاردن لمسافر قادم الى أرض المملكةْ)
طارق : أمي ، أمي هلا أتيتي للحظة أنظري الشريط الاخباري. !
الأم : هذا ما كنا نخشاه ، اللهم السلامةْ اللهم السلامةْ.
تناولت طعام العشاء مع العائلة والجميع يظهر على وجوههم ملامح من الوجل والاستفهام
جميعنا بلا استثناء أنا وأبي وأمي وأخي راشد وأختي سارة .
كانت الايام تمضي سريعا وكانت البلاد تقاوم بكافة أطيافها وطاقاتها وقدراتها من أجل السيطرة على حركة المطارات والمعابر البرية والبحرية، وكان الفصل الجامعي ما زال قائما وهنالك تخوفٌ كبير من تطبيق حجر صحي على المملكة للسيطرة على الوضع الوبائي ، وفي أحد الايام أتممت فيها دوامي الجامعي مبكرا وكان هذا العام آخر عام لي في كلية الآداب وكما هو متوقع صدر القرار بتطبيق حجر صحي شامل بأمر من رئيس الحكومة الذي من شأنه ان يوقف عمل أغلب القطاعات في الدولة وكانت المؤسسات التعليمية أولها إذن لا جامعة بعد الان ولا مسابقات شعرية أو حتى مناظرات علنية ! بدأت الدهشة على وجهي
سيكون هنالك نظامٌ آخر إذن لاستمرارية الدراسة والعمل .
وصلت المنزل وألقيت التحية على أمي وأبي :
طارق: السلام عليكم
الام والاب: وعليكم السلام
الأب : اهلا يا بني هل علمت بآخر المستجدات ؟
طارق: نعم يا أبي ، ابتداء من يوم السبت سيتم تطبيق الحجر الصحي.
الأب : مالي أراك حزينا وكأن السماء أظلمت في وجهك.
طارق: يا أبي إن هذا هو عامي الأخير في الكلية ولا أدري ما تبعات هذا الامر؟ ، وإنه أيضا ليحزنني أن
بلادي تخوض الصراع مع هذا المرض الذي قد يستنزف من قوتها وامكاناتها .
الأب: يا بني لا تخف ،أما بشأن التعليم فسيتم إكمال المتبقي من هذا الفصل باستخدام تقنيات التعلم الحديثة
عن بعد هذا ما حصل خلال المؤتمر الذي عقد منذ قليل من قبل الحكومة.
طارق: حمدا لله ، لقد توقعت حصول ذلك يا أبي ، نسأل الله أن يرفع عنا هذا الوباء وأن يحفظ بلادنا.
كان الحظر مؤلما في البداية ، إلا أن التزامي بالمحاضرات الجامعية وتواصلي مع أصدقائي وتقربي الأكثر من العائلة كان له شأنٌ كبير في صقل العديد من المهارات لدي ، إذ زادت قدرتي على البحث والدراسة لساعات أكثر ، ارتفعت نتائجي وتحصيلاتي العلمية ، أصبحت أكثر انتاجية وبتّ أقضي وقتا أطول مع العائلة ، لا أقول إن الحياة في ظلّ كورونا أفضل إلا أنه استطعت أن اقوم بكثير من النشاطات التي كنت أعملها سابقا ، إلا أنني اشتاق لرؤية الأصدقاء والأقارب وتبادل أطراف الحديث معهم .
أشتاق جدا لأروقة الكلية وقاعاتها ، أفتقد التنوع الادبي ؛ هذا يلقي خطابا عن التسامح وذاك يقرأ من الأدب العربي وجمع من الزملاء والزميلات يتحدثون ويضحكون ، لا بد من استمرار هذه الطاقة وهذا الشغف سأقوم بإنشاء غرفة رقمية باستخدام تقنيات التواصل وستستمر هذه النشاطات بإذن الله ، نحن الشباب لنا الغد.
بدأت أعتاد الوضع وكانت الأمور الصحية مبشرّة في بلدي العزيز ، رغم صعوبة الأوضاع المادية التي كانت تمر بها العائلة والخصومات التي جرت على دخل والدي الشهري إذ تم خصم ربع دخل والدي الشهري وكان للتزايد المستمر في استهلاك الموّاد التموينية والغذائية بسبب الجلوس بالمنزل أثرا على التفكير لدي ، إذا ماذا حل ببائع الصّحف المقابل لمنزلنا وكيف يعيش أبناء الحدّاد ؟ ، وكيف هو حال جارتنا التي تعتاش من الخياطة؟
- أبي، أبي
الأب: نعم ي ولدي .
طارق: لو فرضنا أن لدينا خمس حبات من التفاح لكل واحد منا حبة وأردت أن أشاركك في حبّة التفاح الخاصة فهل ستشاركني بها ؟
ألاب :(بعد ان ضحك كثيرا) ، بالتأكيد يا بني سأقوم بذلك لكن ماذا عساك تفعل في حبّة التفاح الخاصة بك؟
طارق: أفّضل أن أعطيها لأحد أبناء جارنا الحدّاد ، أنظر الي يا أبي ؛ هنالك العديد من الاطفال في عمر أخي راشد يحتاجون كهذا العطاء ، حتى أن هنالك العديد من العائلات في هذا الحي يحتاجون وقفتنا ومعونتنا ، فنحن في هذا الظّرف كالجسد الواحد لا ينبغي لأحد أن يشكو ألما أو جوعا .
الأب: يا بنّي لقد فهمت ما ترمي إليه ، إنّي لازداد فخرا بأنك ابني وابن هذا البلد المعطاء ، يوم غد سأقوم بالاجتماع ببعض الجيران لنرى ماذا سنفعل بشأن أعزاءنا ميسوري الحال في هذا الحي ، كن على استعداد لتقوم بواجبك في هذه المبادرة المباركة ، شكرا يا بنّي هذا ما عهدتّك عليه دائما تسبق الجميع في فعل الخير ومحبا للعطاء ؛ هكذا تُبنى الاوطان يا ولدي بالعمل والحب والعطاء.
كنت معجبا جدا بإجراءات الحكومة والمواطنين خلال هذه الأشهر ، إنه لشيء مهيب أن نرى أن البلاد من أفضل دول العالم في التعامل مع هذا الوباء ، وكان لالتزام المواطنين دورا كبير في انجاح هذه العملية وقدرتهم على مشاركة الخير ، ها قد قارب الفصل الدّراسي على الانتهاء واقتربت من تحقيق هدف جديد
اليوم سأقوم بزيارة صديقي " فراس " في فترة السّماح بالتنقل وسآخذ القليل من الكعك الذي صنعته أمي.
كنت أستعد صباحا لأغادر المنزل ، وشدّني بعض الكلام الذي يدور بين أمي وأختي سارة ، كانت أختي سارة تكبرني بثلاثة أعوام وهي تعمل منذ سنة في شركة خاصة للتسويق الرّقمي وصناعة المحتوى المرئي ، إنها ماهرة جدا في عملها ،لكنني سمعتها تخبر أمي أن ادارة الشركة ستقوم بإنهاء خدمات بعض من الموظفين بسبب الاوضاع الراهنة وتأزم الوضع الاقتصادي ، ثم ذهبت الى أمي واختي
وقلت : السلام عليكم ، ماذا يدور هنا لقد سمعتكم تتكلمون بشأن عملك يا سارة ، أصحيح أن الشركة ستقوم بإنهاء خدمات بعض الموظفين ؟
سارة : نعم يا اخي، لكنني لا اعلم ماذا سيحدث !
طارق: توّكلي على الله ، أنت مجتهدة وقوية في عملك ، ونحن الآن في وقت الكفاءات والقدرات
وأنت متفوقة دائما ، لذلك لا تخافي.
طارق : أمي ، انا ذاهب لزيارة فراس ، سأعود عند موعد العشاء ، السلام عليكم .
الأم : في أمان الله يا ولدي، لا تنسى ارتداء القفازات والكّمامة .
وصلت الى بيت صديقي فراس ، كان الجو مناسبا لتبادل اطراف الحديث، كان فراس صديقي في الكلية وكان يكبرني بعام وهو حاليا يعمل معلّم لغة عربية في احدى المدارس .
فراس: أهلا وسهلا بصديقي طارق ، سعيدٌ جدا بهذه الزيارة ، شكرا على الكعك تفّضل بالجلوس.
طارق: أخبرني كيف هو العمل من المنزل ، ماذا حل بمشروع المركز الثقافي الذي كنت سوف تقوم بإنشائه؟
فراس : ما زالت الفكرة قائمة ، إلا أن الوضع الراهن لم يمنعني ، لقد قمت بإنشاء قناة على اليوتيوب
( موقع الكتروني لعرض الفيديوهات ) ، وأسميتها باسم المركز الثقافي وقمت بتقديم العديد من
الفيديوهات المجانية التي شاهدها العديد من طلاب الصفوف المختلفة في المملكة ،إنه لشيء جيد
أن تشعر بثمرة تعبك وقدرتك على العطاء في مثل هذه الظروف ، ولتعلم يا صديقي إن هذا الوباء
مجرّد فترة زمنية وستنقضي وسيعود كلّ منّا الى حلمه وسنكون أقوى وأشد وعيا وأكثر ادراكا.
طارق: صدقت القول يا صديقي، لقد كنت أشعر بالحزن مسبقا إلا أنني اكتشفت في داخلي إنسانا آخر
لقد شعرت بقوتي في هذه المحنة ،شعرت كيف يمكنني أن اقضي وقتا مع أخي الصغير ، كيف
يمكنني أن اساعد غيري وأشعر بمعنى الإنسانية وحب غيري ، لقد تمكنت من إسعاد الكثير من الجيران بمساعدة عائلتي وأصدقائي وأبناء وبنات الحّي ، كنت قادرا على عمل الكثير من الأعمال الإيجابية .
فراس : ( وهو يبتسم ) ، لم يكن الحجر الصحّي سيئا جدا ، لقد أقلعت عن التدخين ، لقد باتت صحتي أفضل.
لقد قضيت وقتا ممتعا مع فراس ، لقد تعلمت أنه يمكننا أن نكون أصحاب عزم ، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم ، كان هنالك العديد من طارق وفراس في هذا الوطن !
وصلت الى المنزل قبل موعد العشاء وفي فترة السماح بالتنقل ، واذا بأخي يلقاني خارجا وينادي : طارق ، طارق .
طارق : نعم يا عزيزي ، أراك تنتظرني خارجا ،ماذا هناك ايّها الصغير اللطيف؟
راشد : لقد سمعت من أمي بأن سارة ستواصل العمل ، لقد تواصل معها مديرها وأخبرها بأن هذا هو الوقت الذي سنكون فيه بحاجة بعضنا في العمل أشد من ذي قبل وأثنى عليها وكانت شديدة البهجة.
طارق : الحمد لله ، إنه لخبرٌ مفرح، ماذا تحمل بيديك الصغيرتين ، أرى أنه دفتر الرسم الخاص بك.
راشد : تفّضل يا أخي ، هذه الرسمة أهديها اليك ، لقد كنت بانتظارك منذ برهة .
لقد كان شيء جميل أن أرى هذه الرسمة ، لقد رسمني راشد أنا وأبي وكلّ لديه صندوق يحمله بين يديه
لقد كتب تحتها " هكذا يمكن للجميع أن يكون سعيدا "
هيثم العقله